فصل: سورة الحديد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وقد جاء في القرآن الكريم: {يا جبال أوبي معه والطير}. فإذا الجبال كالطير تؤوب مع داود! وجاء في الأثر: أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إن بمكة حجراً كان يسلم عليّ ليالي بعثت. إني لأعرفه الآن». وروى الترمذي- بإسناده- عن علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- قال: كنت مع رسول الله بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول «السلام عليك يا رسول الله».. وروى البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لزق جذع. فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حن الجذع حنين الناقة، فنزل الرسول فمسحه، فسكن.
وآيات القرآن كثيرة وصريحة في تقرير هذه الحقيقة الكونية: {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} ولا داعي لتأويل هذه النصوص الصريحة لتوافق مقررات سابقة لنا عن طبائع الأشياء غير مستمدة من هذا القرآن. فكل مقرراتنا عن الوجود وكل تصوراتنا عن الكون ينبغي أن تنبع أولاً من مقررات خالق هذا الكون ومبدع هذا الوجود.
{وهو العزيز الحكيم}.. فتسبيح ما في السماوات والأرض له فرع عن العزة الغالبة والحكمة البالغة. فهو المهيمن على كل شيء بقوته، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته.
وما يكاد القلب البشري يفيق من فيض هذا النص، ومن مهرجان الوجود المسبح لخالقه في السماوات والأرض، حتى يعالجه السياق برحلة جديدة في ملكوت السماوات والأرض:
{له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير}..
إن كل شيء في السماوات والأرض سبح لله. مالك السماوات والأرض. الذي لا شريك له في ملكه. فهو تسبيح المملوك لمالكه المتفرد، الذي يحيي ويميت، فيخلق الحياة ويخلق الموت. ويقدر الحياة لكل حي ويقدر له الموت؛ فلا يكون إلا قدره الذي قضاه.
والحياة ما تزال سراً في طبيعتها، وسراً في مصدرها؛ ولا يملك أحد أن يقول من أين جاءت، ولا كيف جاءت فضلاً على أن أحداً لا يدري ما هي على وجه الحقيقة. والنص القرآني يقول: إن الله هو الذي يحيي. الذي يعطي الحياة للأحياء. وما يملك أحد أن ينكر هذا ولا أن يثبت غيره. والموت كالحياة سر مغلف. لا يعرف أحد طبيعته ولا يملك أحد أن يحدثه. لأن أحداً غير واهب الحياة لا يملك سلبها.. وهذا وذلك من مظاهر الملكية المطلقة لله في السماوات والأرض يحيي ويميت...
{وهو على كل شيء قدير}.. إجمالاً بغير حد ولا قيد. فالمشيئة المطلقة تمضي بغير حد ولا قيد. وتتعلق بما تشاء أن تتعلق به كما تشاء. وكل قيد يتصوره العقل البشري بمنطقه هو لهذه المشيئة من أي نوع وأي لون هو تصور باطل، ناشئ من طبيعة العقل البشري المحدود! واختيار المشيئة لنواميس وسنن لهذا الوجود داخل في حقيقة انطلاقها بلا قيود ولا حدود. فهي تختار هذه النواميس والسنن اختياراً طليقاً، وتعملها في الكون غير مقيدة بها بعد إعمالها، ولا محصورة في نطاقها.
والاختيار دائم ومطرد وراء هذه السنن والنواميس..
والقرآن يولي هذه الحقيقة عناية كبيرة، فينص عليها في كل مناسبة بما يفيد طلاقة المشيئة من كل قيد يرد عليها حتى من عملها هي. لتبقى هذه الحقيقة واضحة، ويبقى تصورها غير مشوب. فقد وعد الله أهل الجنة بالخلود فيها وأهل النار كذلك. وهذا الوعد صادر من المشيئة. ولكنه أبقى المشيئة طليقة خارج نطاق هذا الوعد ذاته وهو من عملها وباختيارها. فقال عن هؤلاء وهؤلاء: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك..} وهكذا في كل موضع وردت فيه مثل هذه المناسبة. ولا مجال لمنطق العقل البشري ولا لمقرراته في هذا المجال. وعليه أن يأخذ مقرراته كلها من هذا القرآن، لا من معين آخر غير القرآن!
ومن ثم يتمثل للقلب البشري من خلال هذه الآية سلطان الله المطلق في ملكه الذي لا شريك له فيه، والذي يتوجه إليه سبحانه بالتسبيح وحق له أن يتوجه، وحق عليه أن يسبح.
وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعة حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى. حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة. فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء:
{هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}..
الأول فليس قبله شيء. والآخر فليس بعده شيء. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء.
الأول والآخر مستغرقاً كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقاً كل حقيقة المكان. وهما مطلقتان. ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله. وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه. حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمداً من وجود الله. فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده. وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته. وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود..
{وهو بكل شيء عليم}.. علم الحقيقة الكاملة. فحقيقة كل شيء مستمدة من الحقيقة الإلهية وصادرة عنها. فهي مستغرقة إذن بعلم الله اللدني بها. العلم الذي لا يشاركه أحد في نوعه وصفته وطريقته. مهما علم المخلوقون عن ظواهر الأشياء!
فإذا استقرت هذه الحقيقة الكبرى في قلب، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله سبحانه؟ وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود- حتى ذلك القلب ذاته- إلا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى؟ وكل شيء وهم ذاهب، حيث لا يكون ولا يبقى إلا الله، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء؟
وإن استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله قطعة من هذه الحقيقة.
فأما قبل أن يصل الى هذا الاستقرار، فإن هذه الآية القرآنية حسبه ليعيش في تدبرها وتصور مدلولها، ومحاولة الوصول إلى هذا المدلول الواحد وكفى!
ولقد أخذ المتصوفة بهذه الحقيقة الأساسية الكبرى، وهاموا بها وفيها، وسلكوا إليها مسالك شتى، بعضهم قال إنه يرى الله في كل شيء في الوجود. وبعضهم قال: إنه رأى الله من وراء كل شيء في الوجود. وبعضهم قال: إنه رأى الله فلم ير شيئاً غيره في الوجود.. وكلها أقوال تشير إلى الحقيقة إذا تجاوزنا عن ظاهر الألفاظ القاصرة في هذا المجال. إلا أن ما يؤخذ عليها- على وجه الإجمال- هو أنهم أهملوا الحياة بهذا التصور. والإسلام في توازنه المطلق يريد من القلب البشري أن يدرك هذه الحقيقة ويعيش بها ولها، بينما هو يقوم بالخلافة في الأرض بكل مقتضيات الخلافة من احتفال وعناية وجهاد وجهد لتحقيق منهج الله في الأرض، باعتبار هذا كله ثمرة لتصور تلك الحقيقة تصوراً متزناً، متناسقاً مع فطرة الإنسان وفطرة الكون كما خلقهما الله.
وبعد إطلاق تلك الحقيقة الكبرى جعل يذكر كيف انبثقت منها حقائق الوجود الأخرى:
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة ايام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور}..
حقيقة خلق السماوات والأرض. وحقيقة الإستواء على العرش، والهيمنة على الخلق. وحقيقة العلم بأشياء بعينها من هذا الخلق. وحقيقة الوجود مع كل أحد أينما وجد. وحقيقة رجعة الأمور إليه وحده. وحقيقة تصرفه اللطيف في كيان الوجود، وعلمه الخفي بذات الصدور..
وكلها حقائق منبثقة عن تلك الحقيقة الأولى.. ولكن عرضها في هذا المجال الكوني يجعل لها في القلب البشري إيقاعات وظلالاً.. والسماوات والأرض تواجه هذا القلب وتروعه بضخامتها وجلالها، وتناسقها وجمالها، كما تواجهه وتروعه بدقة نظامها وانضباط حركاتها، واطراد ظواهرها. ثم إنها خلائق من خلق الله كالقلب البشري. فله بها صلة الأسرة وأنس القرابة. وهي توقع على أوتاره إيقاعات لدنية حين يتوجه إليها، ويسمع لها، ويعاطفها! وهي تقول له: إن الذي خلقها هو الذي خلقه. وهي تسبح لخالقها فليسبح لخالقه! كما تقول له: إنها تستمد حقيقة وجودها من وجود خالقها وأنه هو كذلك. فليس هنالك إذن إلا هذه الحقيقة تستحق الاحتفال بها!
والأيام الستة لا يعلم حقيقتها إلا الله. فأيامنا هذه ليست سوى ظلال ناشئة عن حركة الأرض حول نفسها أمام الشمس. وجدت بعد خلق الأرض والشمس فليست هي الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض.
فنترك علمها لله يطلعنا عليه إن أراد.
وكذلك العرش. فنحن نؤمن به كما ذكره ولا نعلم حقيقته. أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق. استناداً إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله- سبحانه- لا تتغير عليه الأحوال. فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش، ثم تتبعها حالة استواء. والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسر قوله تعالى: {ثم استوى}.. والأولى أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا. والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفاً لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا. إنما يستند إلى مقررات القرآن ذاته، وإلى التصور الذي يوحيه عن ذات الله سبحانه وصفاته.
ومع الخلق والهيمنة العلم الشامل اللطيف، يصور النص القرآني مجاله تصويراً عجيباً يشغل القلب بتتبعه في هذا المجال الوسيع وبتصوره في حركة دائمة لا تفتر. وهذا أمر غير مجرد ذكر العلم وحقيقته المجردة. أمر مؤثر موح يملأ جوانب النفس، ويشغل خوالج القلب، وتترامى به سبحات التصور ووثبات الخيال:
{يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها}..
وفي كل لحظة يلج في الأرض ما لا عداد له ولا حصر من شتى الأحياء والأشياء؛ ويخرج منها ما لا عداد ولا حصر من خلائق لا يعلمها إلا الله. وفي كل لحظة ينزل من السماء من الأمطار والأشعة والنيازك والشهب، والملائكة والأقدار والأسرار؛ ويعرج فيها كذلك من المنظور والمستور ما لا يحصيه إلا الله.. والنص القصير يشير إلى هذه الحركة الدائبة التي لا تنقطع، وإلى هذه الأحداث الضخام التي لا تحصى؛ ويدع القلب البشري في تلفت دائم إلى ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وفي تصور يقظ لعلم الله الشامل وهو يتبع هذه الحركات والأحداث، في مساربها ومعارجها.
والقلب في تلفته ذاك وفي يقظته هذه يعيش مع الله، ويسيح في ملكوته بينما هو ثاوٍ في مكانه؛ ويسلك فجاج الكون ويجوب أقطار الوجود في حساسية وفي شفافية، وفي رعشة من الروعة والانفعال.
وبينما القلب في تلفته ذاك في الأرض والسماء، إذا القرآن يرده إلى ذاته، ويلمسه في صميمه. وإذا هو يجد الله معه، ناظراً إليه، مطلعاً عليه، بصيراً بعمله قريباً جد قريب:
{وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير}..
وهي كلمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز. فالله- سبحانه- مع كل أحد، ومع كل شيء، في كل وقت، وفي كل مكان، مطلع على ما يعمل بصير بالعباد.
وهي حقيقة هائلة حين يتمثلها القلب. حقيقة مذهلة من جانب، ومؤنسة من جانب. مذهلة بروعة الجلال. ومؤنسة بظلال القربى. وهي كفيلة وحدها حين يحسها القلب البشري على حقيقتها أن ترفعه وتطهره، وتدعه مشغولاً بها عن كل أعراض الأرض؛ كما تدعه في حذر دائم وخشية دائمة، مع الحياة والتحرج من كل دنس ومن كل إسفاف.
ومرة أخرى يعود إلى ملكية السماوات والأرض في مجال آخر غير الذي وردت فيه أول مرة:
{له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور}..
ففي المرة الأولى جاء ذكرها في معرض الإحياء والإماتة والقدرة المطلقة. وهنا يجيء ذكرها في معرض رجعة الأمور كلها إلى الله. وهي متصلة بملكية الله للسماوات والأرض ومكملة لحقيقتها.
والشعور بهذه الحقيقة يحرس القلب من كل لفتة لغير الله في أي أمر. في أول الأمر وفي آخره. ويحميه من التطلع لغير الله في أي طلب، ومراقبة غير الله في أي عمل. ويقيمه على الطريق إلى الله في سره وعلنه، وحركته وسكونه، وخوالجه ونجواه. وهو يعلم أن لا مهرب من الله إلا اليه، ولا ملجأ منه الا الى حماه!
وينتهي هذا المطلع بحركة لطيفة من حركات القدرة في مجال الكون، وفي أطواء الضمير:
{يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور}...
ودخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، حركة دائبة، وهي في الوقت ذاته حركة لطيفة سواء كان المعنى طول الليل وأخذه من النهار، وطول النهار وأخذه من الليل؛ أو كان المعنى مجرد تداخل الليل في النهار عند الغروب، وتداخل النهار في النهار في الليل عند الشروق.. ومثل هذه الحركة في خفائها ولطفها، حركة العلم بذات الصدور. وذات الصدور هي الأسرار المصاحبة لها. التي لا تفارقها ولا تبرحها!
والشعور بيد الله تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، في لطف؛ ينشيء في القلب حالة من التأمل الرفيق، والحساسية الشفيفة. كالشعور بعلم الله يتلطف في الاطلاع على ذات الصدور، الساكنة في خبايا الصدور!
هذا المطلع بإيقاعاته تلك، يدع القلوب في حساسية مرهفة للتلقي. ومن ثم يجيء الهتاف لها بالإيمان والبذل في أنسب أوان. وقد تفتحت مداخلها، وتوفزت مشاعرها واستعدت للاستماع. وهنا يجيء ذلك الهتاف في المقطع التالي في السياق. ولكنه لا يجيء مجرداً. إنما يجيء ومعه مؤثراته وإيقاعاته ولمساته:
{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم.
وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير}..